إشكالية حكم الأغلبية في النظام الديموقراطي

جوان 25, 2009
بعض الإشكالات المرتبطة بتطبيق الديموقراطية

أحمد الريسوني

خاص – من كتابة وحي القلم

الإشكال: أن الديموقراطية التي تحكم الأغلبية وتجعل الأغلبية مشرعة “تحلل وتحرم” –باستعمال المصطلح الشرعي- يمكن أن تحل ما حرم الله وأن تحرم ما أحل الله، وأن تلغي ما أوجب الله، وأن تفرض ما لم ينزل الله به سلطانًا. بمعنى أننا ننصب الأغلبية شارعة أو مشرعة حاكمة. وكما يذهب البعض إلى درجة أنه يقول: كيف إذا حكمت الأغلبية بإباحة الخمر أو الزنا مثلًا… الخ.

الجواب عن الإشكال:

أولًا:إن الأغلبية – على الأقل في العالم الإسلامي- ستقف دائما وأبدا مع الإسلام ومع إي حكم إسلامي ثابت يقول به العلماء ويوضحونه وينادون به، هذا من الناحية الواقعية. وإلا فمن لديه شك فليأتنا بعكسه. فقد أكدت التجارب أنه حيثما أعطيت حرية الاختيار في العالم الإسلامي إلا وكان الاختيار يتجدد ويتجذر لصالح الإسلام، ويمكننا أن نتحدى أي حاكم في العالم الإسلامي وفي غير الإسلامي، أي سياسي وأي لائكي وأي إسلامي أيضًا نتحداه أن نجرب ونستفتي الناس في حكم بعينه أو في مجموع الأحكام، كأن نقوم باستفتاء مثلا في مسألة تطبيق الشريعة، فإذا كان استفتاء حرا حقيقيًا بدون إشهار وبدون حملة انتخابية، أو إذا جربنا استفتاء في وسط الذين يعملون بالربا في مسألة تغيير النظام الربوي بنظام آخر لا ربوي، أو مسألة التبرج في وسط النساء إذا سألن عن رأيهن في إلغاء التبرج… فالواقع يشهد أنه في العالم الإسلامي حيثما استفتينا الناس فإن أغلبية الناس ستكون مع الإسلام بالجملة أو بالتفصيل. ويزدد هذا الأمر يقينية في الأحكام المعروفة والمشهورة والمنصوصة من الدين، ومن قال غير هذا فنحن نرفع التحدي على صعيد العالم الإسلامي كله.

ثانيًَا:لنفترض جدلًا، من باب [ لئن أشركت ليحبطن عملك ] ونقول: لو أن أغلبية شعب أو قطر إسلامي رفضت شيئًا من الإسلام أو أقرت شيئًا يخالف الإسلام. هذا الأمر –في الحقيقة- في غاية الأهمية؛ لأنه سيفتح أعيننا لو وقع على الحقيقة المرة التي يجب أن نعالجها؛ لأن الإسلام قبل أن يكون دولة ونفوذًا وسلطة، قبل ذلك هو قناعة واختيار وتعبد وتدين، فإذا افترضنا أنه في قطر من الأقطار الإسلامية بلغ الإبعاد والابتعاد عن الدين، والجهل بمقتضياته وضعف التدين وتفشي التروع اللاديني إلى درجة أن يرفض الناس الشريعة جملة أو يرفضوا شيئًا من أحكامها، فهذا في الحقيقة اكتشاف خطير؛ لأن فائدة الديموقراطية في هذه الحالة هي أنها عرفتنا على حقيقة الأمور، حتى لا نبقى –نحن المؤمنين بهذه الأحكام- من المخدوعين، ونعرف إلى أي درجة انحط التدين، وهذه الفرصة الوحيدة للعلاج، فكيف نعالج واقعًا نحن لا نعرفه، فيهمنا أن نطرح هذا التحدي كي نستفيد منه، ونكون مسرورين –ليس بوجود هذه الحقيقة- بل باكتشافها، أي بمعرفة الواقع كما هو.

ثم يجب أن نعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين طبق الإسلام في مجتمع المدينة، التطبيق التشريعي الكامل، كانت المدينة قد أصبحت في عمومها وفي أغلبيتها في عقيدة الإسلام وتحت سلطة الإسلام، السلطة المعنوية والقلبية والروحية، وقبل ذلك لم يطبق الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام تطبيقًا عاما ملزما، فلم يحاول أن يطبقه على أهل مكة. لقد عاش المسلمون في الحبشة ولم يطالبوا النجاشي بأن يطبق الإسلام ويحكم بالإسلام بالرغم من أنه أسلم وكان في إسلامه نوع من الخفاء ولم يعلنه صراحة إلا الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن مات النجاشي، فيمكن أن يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطبق الإسلام في مكة؛ لأنه لم تكن لديه القدرة المادية. لكن النجاشي كان صاحب سلطة، ولكن أغلبية الناس ليسوا على الإسلام، فكيف يطبقه عليهم وهم لا يؤمنون به. وأي شيء أفسد للإسلام وأكثر تشويهًا له من أن يلزم ناس بتطبيقه وهم لا يؤمنون به. فإذا افترضنا أن مجتمعًا إسلاميًا اختار غير الإسلام شريعة أو اختار من الإسلام أمورًا ورفض أمورًا أخرى، فإن العمل حينئذ ليس هو إلزام الناس وإكراههم وتطبيق هذا الإسلام الذي تفلتوا منه، بل الحل هو إقناع الناس وإعادتهم إلى رشدهم وفهمه وإلى تصحيح علمهم ومعرفتهم بالإسلام، وبعد ذلك نأتي إلى التطبيق، فلا نتصور أنه من الصواب تطيق الإسلام على قوم أغلبيتهم يرفضونه أو يرفضون شيئًا منه. وهذا الافتراض يكون أقرب إلى المعقولية في الرفض الجزئي. ويمكن أن يتصور في أمور من الدين الناس متعرضون للتضليل والتجهيل. فخير لنا أن نعرف هذه الحقائق ثم نصلحها من أن نتمادى حينئذ في المطالبة بتطبيق شيء على ناس يجهلونه ويرفضونه وابتعدوا عنه لسبب من الأسباب.

وبغض النظر عن هذا الافتراض، فالعالم الإسلامي الذي شعوبه مسلمة بنسبة كبيرة جدًا أو بنسبة كاملة، يستحيل عمليًا إذا أعطيت الحرية الحقيقية للناس وللممثلين الحيقيقيين للناس أن يختاروا أو يبتغوا غير الإسلام دينًا وشريعة، ولن يكون هذا إلا أقرب طريق إلى تطبيق الإسلام وإقامته.
المصدر كتاب “الأمة هي الأصل”.

لأن الشعوب لها حسابها

جوان 8, 2009

لأن الشعوب لها حساب
2009-06-07

فهمي هويدي

أرادت ملكة إسبانيا أن تزور شقيقها في لندن (ملك اليونان السابق قسطنطين) بعدما أجرى عملية جراحية في القلب. فاستقلت مع مرافقيها إحدى الطائرات منخفضة التكلفة في ذهابها وإيابها، وتكلفت تذكرة النفر منهم 35 دولارا. وقالت صحيفة «بريوديكو» نقلا عن مصادر القصر الملكي إن التذاكر المخفضة كانت الخيار الأفضل للملكة صوفيا لأنها أوفر، وأن أفراد الأسرة الملكية يستخدمون الرحلات الجوية العادية في سفرياتهم الخاصة شأنهم في ذلك شأن بقية المواطنين، باستثناء الملك خوان كارلوس الذي عادة ما يسافر بطائرة عسكرية.

وحين قرر الرئيس أوباما أن يفي بوعد قطعه لزوجته ميشيل خلال حملته الانتخابية باصطحابها إلى برودواى لمشاهدة أحد العروض المسرحية هناك، فإنه استقل طائرة عسكرية صغيرة إلى نيويورك، وهناك تناول العشاء في أحد المطاعم ثم ذهب إلى المسرح، وعاد أدراجه بعد ذلك إلى البيت الأبيض (في واشنطن). لكنه لم يهنأ بما فعل، إذ استغل الجمهوريون المناسبة واتهموه بأنه يستمتع بوقته رغم المصاعب التي تواجه الاقتصاد الأمريكي. وأصدرت اللجنة الوطنية الجمهورية بيانا قالت فيه إنه: في حين كان الرئيس أوباما يستعد للسفر إلى حي المسارح في مانهاتن لمشاهدة عرض مسرحى كانت شركة جنرال موتورز تستعد لإعلان إفلاسها، وتستمر عائلات عديدة في الولايات المتحدة في معاناتها لتتمكن من تسديد فواتيرها.


تصرف ملكة إسبانيا والرئيس الأمريكي يعد من الأخبار العادية التي تنشرها الصحف دون أن يكون لها صدى سياسي يذكر. حتى النقد الذي تعرض له الرئيس أوباما لا يبدو أمرا شاذا، سواء فيما صدر عن الجمهوريين، أو فيما خص الإيضاح الذى أصدره وشرح للرأي العام فيه حقيقة ما جرى بالضبط. إلا أن ما جرى فى بريطانيا مشهد مختلف تماما، أحدث زلزالا في الحياة السياسية، وأدى إلى استقالة رئيس البرلمان، كما أطاح برءوس تسعة وزراء حتى الآن.


الحكاية أفاضت فيها الصحف خلال الأسبوعين الأخيرين، وكانت صحيفة «ديلى تلجراف» هى التي أطلقت شرارتها، حين نشرت بيانا بالمصروفات التي تقاضاها الوزراء والنواب من الميزانية عن غير حق. إذ أساءوا استخدام صلاحية وفرها لهم القانون تمكنهم من تغطية بعض النفقات الشخصية والمنزلية لتوفير الاستقرار المناسب لهم. وهى تتراوح بين ترتيب حديقة البيت أو ترميمه أو استئجار وفرش بيوت للقادمين من خارج لندن. وقد تراوحت المبالغ التي حصلها هؤلاء بين 500 جنيه إسترلينى وخمسة آلاف. وهى مبالغ استهولها الشعب البريطاني، ليس لقيمتها المادية، ولكن لدلالتها المعنوية. ذلك أن النواب والوزراء حين حصلوا تلك المبالغ بغير وجه حق، فإنهم في رأي الناخب البريطاني خانوا الأمانة وفقدوا الثقة والاعتبار. وهى أمور تهدم المستقبل السياسي لأي شخص. وذلك ما حدث بالضبط، حيث لا تزال توابع الزلزال مستمرة حتى اليوم.


لا أستبعد أن يلجأ البعض إلى المقارنة بين سلوك ملكة إسبانيا وغيرها من ملكات آخر الزمان. أو بين انتقاد الرئيس الأمريكي لأنه ذهب يستمتع بوقته لعدة ساعات وبين غيره ممن يستمتعون بأوقاتهم طول الوقت. ولن أستغرب إذا انخرط واحد في البكاء ولطم خديه حين وجد أنهم في بريطانيا يحاسبون المسؤولين ويسقطونهم من مناصبهم جراء استيلائهم غير المشروع على بضع مئات من الجنيهات في حين أن الأكابر في بلادنا ينهبون الملايين والمليارات ويكون ذلك أحد مسوغات ارتقائهم في مدارج السلطة وائتمانهم على مستقبل السياسيات. لكنى ما قصدت شيئا في كل ذلك، لأن ما همني أن ثمة قاسما مشتركا بين المشاهد التي ذكرتها. يتمثل في أمرين، الأول أن الحكام في تلك البلدان بشر يعيشون على الأرض، وليسوا آلهة تعيش في الأبراج العالية والنائية. والثاني أن الشعوب هناك يعمل لها حساب، لأن شرعية أولئك الحكام وأنظمتهم مستمدة من رضائها، أما ما عدا ذلك من انطباعات أو تعليقات فلست مسؤولا عنه.

‘ملهاة’ عائض القرني و’مأساة’ سعود الهاشمي

جوان 5, 2009
‘ملهاة’ عائض القرني و’مأساة’ سعود الهاشمي

بقلم خالد حسن


مجلة العصر

هالني ما قرأته أمس عن الانتهاكات وأنواع التعذيب (الجسدي والمعنوي) الذي تعرض له “الإصلاحي” د. سعود بن مختار الهاشمي، المعتقل منذ حوالي سنتين ونصف في السعودية مع مجموعة أخرى من دعاة العدل والشورى وحقوق الإنسان. هم قدموا حريتهم ثمن خروجهم من صمت وسلبية الهامشية والدونية إلى حيوية الفعل الإصلاحي السلمي، حتى وإن لم يكن مؤثرا، لكن على الأقل يجسدون فيه آدميتهم وكرامتهم وإنسانيتهم..

و(الإصلاحي) في السعودية، وببساطة، وصف أو لقب يحمله كل من فكر بصوت عال في قضايا الشورى والحريات المشروعة في البلد، منهم الإسلامي واللبرالي ومن لا انتماء له، وهكذا…لأن بعضنا عندما يمر عليه هذا الوصف، يظن نفسه أمام ميشال كيلو أو علي بلحاج أو راشد الغنوشي، يعني ليس معارضا بالمفهوم الغربي ولا بالمفهوم العربي، وإنما وفق ما تتحمله التجربة الإصلاحية السعودية، هو شخص يتوق إلى حرية التعبير ويحلم بحرية التجمع، لا ينازع حاكما ولا محكوما، لا ينادي بالتداول السلمي على السلطة وإنما بحرية اختيار مجلس الشورى وربما بملكية دستورية..، واستقلالية القضاء واحترام حقوق الإنسان.

هذا الاستطراد مهم حتى لا يذهب بال القارئ بعيدا في تخيل “الجرم” الذي ارتكبه د. سعود الهاشمي وإخوانه، هم واكبوا ـ فقط ـ التوجه العام الداعي للإصلاح السياسي. فكل ما هنالك، ليس أكثر من عريضة مطلبية أو جلسات للتفكير الهادئ والسلمي حول مصير الإصلاح والشورى في البلد، أو التنديد بممارسات أجهزة أمنية وقضائية وحكومية.. يعني بالمفهوم السياسي، هم أقرب إلى “الإصلاح الناعم”، الذي لا يسيء لحكم ولا يهدد مصالح ولا يستفز مشاعر “ولاة الأمور”..

ودعاة الإصلاح في السعودية يدركون أنه ليس ثمة رأي عام محلي ولا عربي ولا دولي، قادر على تشكيل مظلة للدفاع عن هؤلاء، فالبلد مغلق لا يتحمل هذا النوع من الحراك، ولا يتصورون أن هناك ضغوطا من العالم، الذي يسمونه “حرا”، بإمكانه “تهذيب” أوضاعهم المزرية. وإنما أقصى ما يطلبونه وهم في غياهب المعتقلات، أن يعاملوا وفق ما نصت عليه القوانين والإجراءات الجزائية.

إلى هنا، فالأمر هم وغم نعيشه ونتنفسه ونكتوي بناره، صباح مساء، ونعزي أنفسنا بأن هذا قدر الأحرار في دنيا العبيد، لكن أن يصلني خبر في اليوم نفسه، وهذا نصه حرفيا: (أعلن الشيخ عائض القرني عن مسابقة ضخمة وبجائزة تبلغ مليون ريال لأفضل شاعر يتمكن من مجاراة القصيدة وبنفس المضمون الذي يثني على رب العالمين. هذا وقد اختير الشاعر ناصر القحطاني رئيساً للجنة تحكيم المسابقة والأستاذ عبدالله الشمراني أميناً عاماً لها، كما أبدت عدة جهات اهتمامها بالجائزة معلنة رغبتها في رعايتها والتعاون في سبيل إنجاحها ومن بينها الاتصالات السعودية وقناة MBC)، فهذا مما يزيدني غما وهما وألما.

يعني لا يكفي أن يُتنكر لهؤلاء وأن يخذلوا بالصمت والهجران والقطيعة مع قضاياهم، لنضيف إلى هذا ترف وعبث. ماذا لو انشغل الأحرار يوم أن ضُيق على الشيخ عائض خلال سنوات مضت، بهذه الهوامش؟ ماذا لو تخلوا عنه وعن قضيته وانصرفوا إلى فقاعات إعلامية تتخطفهم يمنة ويسرة؟

ربما قد يبدو تأثير المثقف ـ في السعودية ـ هامشيا، لأن ثقافة السلطة هي المهيمنة، ومسوقوها ليسوا فقط من الحرس القديم، وإنما أيضا دعاة ومثقفون، يعملون بشروط السلطة، سواء رغبة منهم، أو باضطرار وتحت دوافع مختلفة، فيعيدون إنتاج الخطاب الرسمي، بأسلوب ناعم.

وأدرك كما يدرك معتقلو الشورى والعدالة وحقوق الإنسان، أن شروط الانخراط في الفعل الثقافي والسياسي في السعودية أصبحت مرهونة بالانضمام إلى “قطيع” من المؤسسات والمساحات، التي تضعنا أمام أحد خيارين، العزلة أو الاندماج في حراك مشروط. لكن ماذا لو حاول البعض التفكير بطريقة مختلفة، حتى وإن لم تساير التيار العام، وخالفت بعض الرغبات؟

كان متوقعا أن يتعرض د. سعود الهاشمي وصحبه للضغوط المساومة، ويبدو أن الأجهزة الأمنية المتورطة في اعتقاله، كانت تحاول أن تجرب مدى ضعفه الإنساني واستعداده للرضوخ لمطالبها أو الاعتذار عن مواقفه، لكن متى كان السجن يغير قناعات الأحرار، فلا أحد يتخلى عن مطالب إصلاحية لا تنازع ولا تهدد ولا تقوض ولا توهن ولا تثير الفتن.

تحرك هؤلاء وغيرهم من “الإصلاحيين”، لأنهم أرادوا أن يعيشوا لقضية هي أكبر من ثنائية هامشية عبثية، غناء محمد عبده لقصيدة الشيخ عائض القرني، وأن تتحول قضيتهم إلى “أول قضية رأي عام” في السعودية، وهي قضية “لم تمت”، ومازالت حية وتستحق وعيا وتحركا وقناعات.

وعجبت لاهتمامات الكثيرين في السعودية، مواقع ومنتديات وصحف وأوساط، يحشدون أقلامهم ومنابرهم وصفوفهم في قضية خبر عائض القرني ومحمد عبده، ويخصصون لها الأوقات وربما البرامج الحوارية، وأساتذة ومثقفون، كانوا بالأمس القريب جزءا من المشهد العام، يغيبون في السجون، وينحون من الذاكرة، ويتعرضون لترهيب وتعذيب نفسي ومادي، ويمر الخبر وكأنه “لا حدث”.. فالأمة مشغولة بالخطر الأكبر، إيران، وبالمفاجأة التي أحدثت زلزلة في الوسط الشرعي: التعاون الفني ين الشيخ عائض القرني ومحمد عبده، كما عبر عنه أحد الإعلاميين السعوديين، والذي يثير الدهشة أكثر، أننا نتعرض للموت النفسي والفكري يوميا، ونتعامل مع أنفسنا والآخرين، كأننا أحياء غير أموات، بل ونشغل أنفسنا والآخرين بأخبار هامشية.

لا أطالب الشيخ عائض القرني، وغيره من أهل التأثير العام، أن ينحازوا لمثل قضايا د. سعود الهاشمي، دفاعا عن الكلمة الحرة، (وهذا من مسؤولية المثقف)، لا أبدا، فهذا تحميل ما لا يُتحمل ولزوم ما لا يلزم، وكل ما في الأمر، أن لا يزيد من مصاب إخوانه المعتقلين، باختيارات، تعمق السلبية والهامشية.

ولعلنا قد نسمع خبر شيخ من المؤثرين، يتفقد سجن الهاشمي وإخوانه، ليؤكد بعدها أنه اكتشف وضعا إنسانيا راقيا، أو على الأقل مقبولا، بخلاف ما كان يتناقله أقارب وفريق دفاع د. سعود الهاشمي، فكل شيء ممكن في زمن التجريد والمواقف الفضفاضة والعائمة.

حكم الله أم حكم الشعب؟

ماي 29, 2009
حكم الله أم حكم الشعب؟*


قضية الحاكمية من القرن الأول الهجري تؤرق المؤمنين ، وقد وقع بعضهم من فرط غيرتهم في تكفير غيرهم من هذا الباب.
وفي زماننا هذا قد برزت مسألة الحاكمية مع استشهاد المفكر العظيم سيد قطب رحمه اللهالذي كان يؤكد في آخر حياته على هذا المعنى.

لن يكون المقال لمناقشة مسألة الحاكمية نفسها ، فمن لا يؤمن بأن الحكم لله ، فهل يصح بعدها دخوله تحت اسم المسملين؟

وقد قرأت في كتب عدد من المفكرين والعلماء في إجابتهم على هذا السؤال ، مقابل اللغط الحادث منذ زمن عن الديموقراطية. وآخر ما قرأته كان الكتاب الفذ الرائع لنواف القديمي أشواق الحريةوقد قرأته للمرة الثانية قبل أيام ، وهذا المقال قراءة في نقطة من النقاط المثارة في مسألة الديموقراطية من خلال هذ الكتاب.

وكما يذكر الأستاذ نواف القديمي في كتابه أن الحركات الإسلامية في غير السعودية ، قد تجاوزت الرفض أو التوقف في مسألة الديموقراطية ، إنما المستشكلون هم من بعض دعاة وعلماء هذا البلد.

بالطبع حججهم كثيرة ليس المجال هنا لحصرها ، إنما فقط أعجبتني لفتتة ذكية جدًا من الأستاذ نواف القديمي في رده على إحدى كبرى الإشكالات التي تطرح في مسألة الديموقراطية ، وهي القول بأن ترجمتها حكم الشعبوالرافض لها يستخدم هذا المعنى مقابل حكم الله، فتكون المسألة في تصوره أنه إما: حكم الله أو حكم الشعب؟

هكذا أتى السؤال ابتداءً ، ولكن لم يتساءل أحد ما ، هل يصح أن يكون السؤال بهذا الشكل؟

حقيقة أنني شخصيًا ورغم أني أقرأ منذ بضع سنوات ما أقع عليه في مسألة الديموقراطية ، واهتمامي بما يكتب عنها ، كنت أجيب منساقًا مع نفس السؤال ومسلمًا بصحته!

بينما اللفتة الرائعة التي ذكرها الأستاذ القديمي في كتابه ، أن هذا السؤال بهذه الطريقة خاطئٌ جدًا ، إذ السؤال ليس حكم الله أم حكم الشعب؟، إذ المقابلة هنا مقابلة بين جنسين مختلفين وليس بين نوعين مختلفين.

فحكم الله وشريعته يقابله القوانين الوضعية، وحكم الشعب يقابله الحكم الفردي المتغلب“.

حيث أنه لا يعرف أبدًا في التاريخ غير طريقتين للحكم ، إما طريقة الاختيار والشورى والبيعة والعقد ، أو طريقة التغلب بالقوة وفرص السلطة بالسلاح. ولم يعرف قديما ولا حديثًا ولا يصح عقلا ولا شرعًا أن حكم الله يقوم بذاته ويفرض نفسه بنفسه.
بينما الله جل جلاله هو المتصرف في كل شيء وله الحكم المطلق والملك المطلق والتصرف المطلق الذي لا ينازعه فيه أحد ، وهو الحكيم الذي جعل للبشر حق الاختيار ، فمن شاء منهم أن يؤمن ومن يشاء فليكفر ، وإنما على الرسل البلاغ.

فالناقد للديموقراطية من خلال سؤاله هذا ، يجب أن يضع في باله مُسَلَّمَتين ، أن هناك طريقتين للحكم لم تعرف التجارب البشرية غيرهما: إما الاختيار ، أو التغلب.

وأي منهما لا يسمى بأنه حكم الله ولا القوانين الوضعية ، إذ أن الحاكم المتفرد المتغلب يستطيع بصلاحياته المطلقة تغيير ما يشاء وتقرير ما يشاء ، فله أن يعبث بالشريعة ويلغي منها ما شاء حتى لو وضع أن المادة الأولى في الدستور أن الإسلام دين الدولة، لأنه لا رادع له من العبث حسب مزاجه ، وكما قال الشاعر المفتري المقتات على موائد الجبابرة في ثنائه على أحد السلاطين المتفردين:

شئت لا شاءت الأقدار ** فاحكم أنت الواحد القهار

والتاريخ يثبت كم جر حكم التغلب الويلات على الناس ، والشاذ من قاعدة التجبر في حكم الفرد المطلق هو دليل على صحة قاعدة أن “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة”.

وفي المقابل فإن حكم الشعب تكون له أفضليته الفارقة ، إذ في الديموقراطية هناك فصل السلطات الذي يضمن عدم استبداد جهة على جهة ، فالسلطة التنفيذية والحاكم مجبران على الرجوع إلى المجلس التشريعي والخضوع للنظام القضائي ، وتكون هذه الجهات ممثلة لهموم الشعب وليست لأهواء الحاكم.

فلو تأمل الناقد بطرحه هذا السؤال قليلًا ، لجعل السؤال بهذه الصورة: ( من الذي يعهد إليه تطبيق الشريعة ومن يختار حكم الله؟ أهم الشعب؟ أم الحاكم الفرد المتغلب؟ )
وفي المقابل فإن صراع الحاكمية يجب أن يكون مقابل القوانين الوضعية وليس حكم الشعب ، إذ الشعب هو من يقرر الإلتزام بالشريعة من عدمها ، كما هو الحال في حكم التغلب فالحاكم الفرد هو من يقرر هل الحكم لله أم للقوانين الوضعية.

وأفضلية النظام الديموقراطي الانتخابي لا تحتاج إلى تدليل ، إذ هي تستند إلى الناس وليس إلى هوى فرد ، وقد جاءت الأدلة من الكتاب والسنة على تأكيد أفضلية هذا المعنى.
وأختم المقالة ببعض النصوص التي تدلل على خيرية الأمة بمجموعها وإجماعها. وكأن بعضها نصوص في تقرير النظام الديموقراطي ومسايرة رأي أغلبية المسلمين:
منها قوله تعالى: { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس }.
وقوله عليه السلام: [
لا تجتمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة ].
وقوله عليه السلام: [ إن أمتي لا تجتمع على ضلالة ، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم ].
وقوله عليه السلام: [ عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة ].
وقد ثبت في الصحيح [ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال : وجبت وجبت ثم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال : وجبت وجبت قالوا : يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت ؟ قال : هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت : وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت : وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض ] .

*أغلب ما جاء في المقال هو إعادة سياق لما في كتاب القديمي.

ولكم التحية.. وليد.

خاطرة حول اليوم التطوعي ، احتفاء كبير بيوم مدني!

أفريل 19, 2009

خاطرة حول اليوم التطوعي ، احتفاء كبير بيوم مدني!

اليوم التطوعي* كان يومًا مدنيًا حضاريًا بحق ، فهل كان يستحق كل هذا الاحتفاء والتقدير؟ أليس أولى أن يكون الاحتفاء بيوم “إيماني”؟

لا يمكن إنكار أن المجالات التي تم تغطيتها في اليوم التطوعي هي من المجالات المدنية الحضارية ، وليس من صنوف العبادات التوقيفية المحضة.
كثيرًا ما دارت حوارات حول أن الجوانب المدنية لا ينبغي التركيز عليها ولا أن تطغى على الجوانب “الإيمانية” ، ومع أن مصطلح “الإيمان” هنا فضفاض ، بل ويدخل فيه تلك المجالات المدنية الحضارية ، إلا أنه حين يطرح فإن يقصد به مجالات محدودة مثل العبادات القلبية ونوافل العبادات وأمثالها..
فما السر في هذا الاحتفاء الكبير والإعداد المنظم لهذا اليوم “المدني”؟

ولأجعل القارئ في الصورة ، وأنه لماذا أصلًا هذا السؤال ، فأقول:
أنه حدثت ولا زالت تحدث نقاشات وحوارات حول الدعوة إلى الإصلاح وحفظ الحقوق ، وكان من الشبه التي تثار أن هذه المجالات هي ليست مما اختص الإسلام بحفظها ، بل هي مشترك إنساني بين كل البشر ، ولذلك لزم أن نركز على الجوانب التي تفرد الإسلام بالدعوة إليها ولم تشترك معه فيها دعوة أخرى! مثل أصول الإيمان وأركان الإسلام -دون التركيز على الزكاة- وصنوف العبادات ، وأبرزها ما يدرج تحت “الإيمانيات” التي هي الأذكار وعبادات القلوب. ويمكن أن نجملها بما يصطلح عليه بـ “إصلاح أو تربية الذات والروح”.

ومع أن هذه الشبهة متهافتة وساذجة ويستطيع أي فرد أن يرد عليها وينقضها ، إلا أنها للأسف لا زالت تردد من بعض الطيبين والذين لا يدركون معانيها! فهل الدعوة إلى “مكارم الأخلاق” لا يجب أن تستحق ذلك الجهد الكبير منا ، لسبب أنها مشترك بين الأمم والحضارات؟ ومن المعروف أن الأخلاق من العلوم “الإنسانية” وليست العلوم الشرعية البحتة!

إلا أن تحليلي -الذي أعتقد أنه صواب يحتمل الخطأ- أن الحماس وراء ترديد مثل هذه الأقوال ، أنها تردد مقابل مجال الإصلاح “السياسي” والحقوق التي تتطلب إصلاح “سياسي” ، وإلا فإن رعاية الضعفاء في المجتمع والدعوة إليها هي من حفظ الحقوق ، ولا يمكن لأي أحد إنكار هذا الشيء. ولكن التطرف في مقابل الدعوات الإصلاحية التي تركز على المجال السياسي واستعادة الحقوق المسلوبة هي التي جعلت لمثل هذه الكلمات تنتشر وتردد!

ربما قال قائل: إن إطعام الفقير ورعاية اليتيم وتقدير المسن وإماطة الأذى والرفق بالناس ، كلها مما يرقق القلب ويزيد الإيمان..
فسأقول له حسنًا. أوليس إنكار المنكرات السياسية من باب الجهاد الذي هو من أفضل الأعمال والعبادات؟

إنه لا يمكن تجزئة الأعمال التي تتعلق بحقوق الأفراد والمجتمعات ، بجعل ما “يناسب” شخصيتنا من الإسلام وما لا نستطيع عليه من الأمور “الدنيوية” التي يجب الزهد فيها! فإنها كلها “حقوق” يدخل فيها ما يدخل من “الحقوق” التي جاء الإسلام بحفظها وأقرتها بعض المذاهب الأرضية.
فحق اليتيم لا يمكن الحديث عنه دون الحديث عن حق السجين!
وحق الفقير لا يمكن الحديث عنه دون معاقبة من لا يخرج الزكاة!
وهكذا فكل الحقوق مترابطة ، وتأتي في المقدمة الحقوق الأساسية:
حق التفكير ، وحق التعبير ، وحق التجمع ، وحق التغيير.
ولو رأينا كل مجال من مجالات “اليوم التطوعي” لما استطعنا أن نفكها عن هذه الحقوق الأساسية ، والتي هي مفاتيح لكل عمل “مدني”.
ولذا فإن القول بأن الدعوات “الإصلاحية السياسية” هي مفاتيح وأصول للعمل الميداني الحر وهي الأداة التي يمكن أن يعمل تحت مظلتها كل مريد للخير ومحب للعطاء ؛ لما كان هذا القول بعيدًا.
وتبقى طرق الإصلاح السياسي وأساليبها تختلف بحسب اجتهادات الأشخاص.

خاطرة أحببت أن أضعها بمناسبة النجاح الكبير الذي تحقق في اليوم التطوعي ، عسى أن تجد عقولًا واعية وقلوبًا صافية.

ولكم التحية.

————————-
* اليوم التطوعي كان يوم الخميس السادس عشر من أبريل 2009 في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن.

لمعلومات أكثر http://www.som1.net/?p=1186

خاطرة حول كما تكونوا يول عليكم

أفريل 19, 2009

خاطرة حول ( كما تكونوا يول عليكم )

( كما تكونوا يول عليكم )
البعض يروج هذه المقولة من أجل التخلي عن المسؤولية فقط لا غير!
تحاورت مع الكثير ممن إذا تكلمت معهم في (الإصلاح السياسي) قال: يا أخي لنصلح أنفسنا وسيصلح الحاكم.
تروج هذه المقولة بأن الناس إذا غيروا ما بأنفسهم فسيتغير كل شيء.

هل المشكلة في نفس المقولة أم في فهمها؟
بل في فهمها ، نعم ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )
هذا لا يعني أنه بمجر أن يترك الناس بعض المعاصي ويكثرون من الحسنات ، وبالذات العبادات التوقيفية ، فإنه سينعكس هذا على الكون وسيصلح كل شيء.
ربما هنا الكلام غير واضح ، لكن بالمثال يتضح المقال:
عندما تخاطب صاحبنا الذي دائمًا ما يردد “غيروا ما بأنفسكم” وتسأله: أليس دعوتنا الناس لأن ينكروا الفساد السياسي ويعرفوا أنه فساد بدل جهلهم به هو أحد أركان “غيروا ما بأنفسكم“؟
تجد الجواب الدائم له: لا.
وأكبر دليل على أن هذا هو الجواب الدائم ، أنك لا تجد مقال أو كتاب يوعي الناس سياسيًا ، إلا وتجد هذه المقولات تنحدر عليه ، حتى كاد أن يكون -بل ربما أصبح- معنى “غيروا ما بأنفسكم” هو النقيض التام لـ”الإصلاح السياسي”.

نعم لنغير ما بأنفسنا ، ولكن كيف؟
عندما تتم توعية المجتمع بخطر هذا الفساد ، وغرس معاني الحرية والكرامة وحفظ الحقوق بأدواتها ، سنكون حينها غيرنا ما بأنفسنا.

شرعية المظاهرات السلمية؟

جانفي 6, 2009

شرعية المظاهرات السلمية

تلقى فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي – رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين – رسالة بإمضاء ” عدد من طلاب العلم الشرعي” (بتاريخ 5 فبراير 2008 ) تحمل هذا السؤال:

ما رأي فضيلتكم فيما ذكره بعض العلماء من عدم مشروعية تسيير المسيرات والمظاهرات، تأييدا لمطالب مشروعة، أو تعبيرا عن رفض أشياء معينة في مجال السياسة، أو الاقتصاد، أو العلاقات الدولية، أو غيرها؟ وقال هذا العالم: إن تنظيم هذه المسيرات أو الدعوة إليها، أو المشاركة فيها حرام.

ودليله على ذلك: أن هذه بدعة لم يعرفها المسلمون، وليست من طرائق المسلمين، وإنما هي مستوردة من بلاد اليهود والنصارى والشيوعيين وغيرهم من الكفرة والملحدين. وتحدّى هذا العالم من يأتيه بواقعة واحدة، سارت فيها مظاهرة كبيرة أو صغيرة، في عهد الرسول أو الصحابة.

وإذا كانت هذه المسيرات تعبّر عن الاحتجاج على الحكومة، فهذا خروج على المنهج الإسلامي في إسداء النصيحة للحكام، والمعروف: أن الأولى في هذه النصيحة أن تكون بين الناصح والحاكم، ولا تكون على الملأ.

على أن هذه المسيرات كثيرا ما يستغلّها المخرّبون، و يقومون بتدمير الممتلكات، وتخريب المنشآت. ولذا وجب منعها سدا للذرائع.

فهل هذا الكلام مسلّم من الوجهة الشرعية؟ وهل يسوغ للناس في أنحاء العالم: أن يسيروا المظاهرات للتعبير عن مطالبهم الخاصة أو العامة، وأن يـؤثروا في الرأي العام من حولهم، وبالتالي يؤثِّرون على الحكام وأصحاب القـــرار، إلا المسلمين دون غيرهم، يحرم عليهم استعمال هذه الوسيلة التي أصبحت عالمية؟

نرجو أن نسمع منكم القول الفصل، الموثق بأدلة الشرع، في هذه الفضية الخطيرة، التي غدت تهم كل الناس في سائر الأقطار والقارات. وفقكم الله وسددكم.

وفي رده على السائل أفاد فضيلته بقوله:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن ابتع هداه…أما بعد

فمن حق المسلمين – كغيرهم من سائر البشر- أن يسيروا المسيرات وينشئوا المظاهرات، تعبيرا عن مطالبهم المشروعة، وتبليغا بحاجاتهم إلى أولي الأمر، وصنّاع القرار، بصوت مسموع لا يمكن تجاهله. فإن صوت الفرد قد لا يسمع، ولكن صوت المجموع أقوى من أن يتجاهل، وكلما تكاثر المتظاهرون، وكان معهم شخصيات لها وزنها: كان صوتهم أكثر إسماعا وأشد تأثيرا. لأن إرادة الجماعة أقوى من إرادة الفرد، والمرء ضعيف بمفرده قوي بجماعته. ولهذا قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا” وشبّك بين أصابعه .

ودليل مشروعية هذه المسيرات: أنها من أمور (العادات) وشؤون الحياة المدنية، والأصل في هذه الأمور هو: الإباحة.

وهذا ما قررته بأدلة – منذ ما يقرب من نصف قرن- في الباب الأول من كتاب: (الحلال والحرام في الإسلام) الذي بين في المبدأ الأول أن القاعدة الأولى من هذا الباب: (أن الأصل في الأشياء الإباحة). وهذا هو القول الصحيح الذي اختاره جمهور الفقهاء والأصوليين.

فلا حرام إلا ما جاء بنص صحيح الثبوت، صريح الدلالة على التحريم. أما ما كان ضعيفا في مسنده أو كان صحيح الثبوت، ولكن ليس صريح الدلالة على التحريم، فيبقى على أصل الإباحة، حتى لا نحرم ما أحل الله.

ومن هنا ضاقت دائرة المحرمات في شريعة الإسلام ضيقا شديدا، واتسعت دائرة الحلال اتساعا بالغا. ذلك أن النصوص الصحيحة الصريحة التي جاءت بالتحريم قليلة جدا، وما لم يجئ نص بحله أو حرمته، فهو باق على أصل الإباحة، وفي دائرة العفو الإلهي.

وفي هذا ورد الحديث: “ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا”. وتلا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64].

وعن سلمان الفارسي: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: “الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرّم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم” ، فلم يشأ عليه الصلاة والسلام أن يجيب السائلين عن هذه الجزئيات، بل أحالهم على قاعدة يرجعون إليها في معرفة الحلال والحرام، ويكفي أن يعرفوا ما حرم الله، فيكون كل ما عداه حلالا طيبا.

وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها” .

وأحب أن أنبه هنا على أن أصل الإباحة لا يقتصر على الأشياء والأعيان، بل يشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة، وهي التي نسميها: (العادات أو المعاملات) فالأصل فيها عدم التحريم وعدم التقييد إلا ما حرّمه الشارع وألزم به، وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}[الأنعام:119]، عام في الأشياء والأفعال.

وهذا بخلاف العبادة فإنها من أمر الدين المحض الذي لا يؤخذ إلا عن طريق الوحي، وفيها جاء الحديث الصحيح: “من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد” ، وذلك أن حقيقة الدين تتمثل في أمرين: ألا يُعبد إلا الله، وألا يُعبد إلا بما شرع، فمن ابتدع عبادة من عنده – كائنا من كان- فهي ضلالة ترد عليه، لأن الشارع وحده هو صاحب الحق في إنشاء العبادات التي يُتقرب بها إليه.

وأما العادات أو المعاملات فليس الشارع منشئا لها، بل الناس هم الذين أنشأوها وتعاملوا بها، والشارع جاء مصححا لها ومعدلا ومهذبا، ومقرا في بعض الأحيان ما خلا عن الفساد والضرر منها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع.

وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه. والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لا بد أن تكون مأمورا بها، فما لم يثبت أنه مأمور به – أي من العادات – كيف يحكم عليه بأنه محظور؟

ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}[الشورى:21].

والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرّمه الله، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً}[يونس:59].

وهذه قاعدة عظيمة نافعة، وإذا كان كذلك فنقول:

البيع، والهبة، والإجارة، وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم – كالأكل والشرب واللباس- فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة، فحرمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لا بد منه، وكرهت ما لا ينبغي، واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها.

وإذا كان كذلك، فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف يشاءون، ما لم تحرم الشريعة، كما يأكلون ويشربون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة – وإن كان بعض ذلك قد يستحب، أو يكون مكروها – وما لم تحد الشريعة في ذلك حدا، فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي) .انتهى.

ومما يدل على هذا الأصل المذكور ما جاء في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: “كنا نعزل والقرآن ينزل، فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن” .

فدل على أن ما سكت عنه الوحي غير محظور ولا منهي عنه، وأنهم في حل من فعله حتى يرد نص بالنهي والمنع، وهذا من كمال فقه الصحابة رضي الله عنهم، وبهذا تقررت هذه القاعدة الجليلة، ألا تشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا تحرم عادة إلا بتحريم الله.

والقول بأن هذه المسيرات (بدعة) لم تحدث في عهد رسول الله ولا أصحابه، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار: قول مرفوض؛ لأن هذا إنما يتحقق في أمر العبادة وفي الشأن الديني الخالص. فالأصل في أمور الدين (الاتباع) وفي أمور الدنيا (الابتداع).

ولهذا ابتكر الصحابة والتابعون لهم بإحسان: أمورا كثيرة لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك ما يعرف بـ (أوليات عمر) وهي الأشياء التي ابتدأها عمر رضي الله عنه، غير مسبوق إليها. مثل: إنشاء تاريخ خاص للمسلمين، وتمصير الأمصار، وتدوين الدواوين، واتخاذ دار للسجن، وغيرها.

وبعد الصحابة أنشأ التابعون وتلاميذهم أمورا كثيرة، مثل: ضرب النقود الإسلامية، بدل اعتمادهم على دراهم الفرس، ودنانير الروم، وإنشاء نظام البريد، وتدوين العلوم وإنشاء علوم جديدة مثل: علم أصول الفقه، وعلوم النحو والصرف والبلاغة، وعلم اللغة، وغيرها.

وأنشأ المسلمون (نظام الحسبة) ووضعوا له قواعد وأحكاما وآدابا، وألّفوا فيه كتبا شتّى.

ولهذا كان من الخطأ المنهجي: أن يطلب دليل خاص على شرعية كل شأن من شؤون العادات، فحسبنا أنه لا يوجد نص مانع من الشرع.

ودعوى أن هذه المسيرات مقتبسة أو مستوردة من عند غير المسلمين: لا يثبت تحريما لهذا الأمر، ما دام هو في نفسه مباحا، ويراه المسلمون نافعا لهــم.” فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق الناس بها” .

وقد اقتبس المسلمون في عصر النبوة طريقة حفر الخندق حول المدينة، لتحصينها من غزو المشركين، وهي من طرق الفرس.

واتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم خاتما. حيث أشير عليه أن يفعل ذلك، فإن الملوك والأمراء في العالم، لا يقبلون كتابا إلا مختوما.

واقتبس الصحابة نظام الخراج من دولة الفرس العريقة في المدنية والتنظيم.

واقتبسوا كذلك تدوين الدواوين، من دولة الروم، لما لها من عراقة في ذلك.

وترجم المسلمون الكتب التي تتضمن (علوم الأوائل) أي الأمم المتقدمة، التي طورها المسلمون وهذبوها وأضافوا إليها، وابتكروا فيها مثل: (علم الجبر) بشهادة المنصفين من مؤرخي العلم.

ولم يعترضوا إلا على (الجانب الإلهي) في التراث اليوناني؛ لأن الله تعالى أغناهم بعقيدة الإسلام عن وثنية اليونان وما فيها من أساطير وأباطيل.

ومن نظر إلى حياتنا المعاصرة في شتى المجالات: وجد فيها كثيرا جدا مما اقتبسناه من بلاد الغرب: في التعليم والإعلام والاقتصاد والإدارة والسياسة وغيرها.

ففكرة الدستور، والانتخابات بالصورة المعاصرة، وفصل السلطات، وإنشاء الصحافة والإذاعة والتلفزة، بوصفها أدوات للتعبير والتوجيه والترفيه، وإنجاز الشبكة الجبارة للمعلومات (الإنترنت).

والتعليم بمؤسساته وتقسيماته وترتيباته ومراحله وآلياته المعاصرة، مقتبس في معظمه من الغرب.

والشيخ رفاعة الطهطاوي، حين ذهب إلى باريس إماما للبعثة المصرية، ورأى من ألوان المدنية ما رأى، بهرته الحضارة الحديثة، وعاد لينبه قومه إلى ضرورة الاقتباس مما سبق به الأوربيون، حتى لا يظلوا يتقدمون ونحن نتأخر.

ومن يومها بدأ المصريون، وبدأ معهم كثير من العرب، وقبلهم بدأ العثمانيون في اقتباس ما عند الغربيين.

كل هذه مقتبسات من الغرب الذي تفوق علينا وسبقنا بها، ولم نجد بدا من أن نأخذها عنه، ولم تجد نكيرا من أحد من علماء الشرع ولا من غيرهم فأقرها العرف العام. وقد أخذ الغرب عنا من قبل واقتبس منا، وانتفع بعلومنا أوائل نهضته {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران:140].

المهم أن نأخذ ما يلائم عقائدنا وقيمنا وشرائعنا، دون ما يناقضها أو ينقضها. فالناقل هو الذي يأخذ من غيره ما ينفعه لا ما يضره. وأهم ما يأخذه المسلم من غيره: ما كان متعلقا بشؤون الحياة المتطورة، وجله يتصل بالوسائل والآليات التي طابعها المرونة والتغير، لا بالأهداف والمبادئ التي طابعها الثبات والبقاء.

على أن ما ذكره السائل أو السائلون، من نسبة هذه المظاهرات أو المسيرات إلى الشيوعيين الملحدين: غير صحيح، فالأنظمة الشيوعية لا تسمح بهذه المسيرات إطلاقا؛ لأن هذه الأنظمة الشمولية القاهرة تقوم على كبت الحريات، وتكميم الأفواه، والخضوع المطلق لسلطان الحكم وجبروته.

قاعدتان مهمتان

وأود أن أقرر هنا قاعدتين في غاية الأهمية:

1- قاعدة المصلحة المرسلة:

الأولى هي: قاعدة المصلحة المرسلة، فهذه الممارسات التي لم ترد في العهد النبوي، ولم تعرف في العهد الراشدي، ولم يعرفها المسلمون في عصورهم الأولى، وإنما هي من مستحدثات هذا العصر: إنما تدخل في دائرة (المصلحة المرسلة) وهي التي لم يرد من الشرع دليل باعتبارها ولا بإلغائها.

وشرطها: أن لا تكون من أمور العبادات حتى لا تدخل في البدعة، وأن تكون من جنس المصالح التي أقرها الشرع، والتي إذا عرضت على العقول، تلقتها بالقبول، وألا تعارض نصا شرعيا، ولا قاعدة شرعية.

وجمهور فقهاء المسلمين يعتبرون المصلحة دليلا شرعيا يبنى عليها التشريع أو الفتوى أو القضاء، ومن قرأ كتب الفقه وجد مئات الأمثلة من الأحكام التي لا تعلل إلا بمطلق مصلحة تجلب، أو ضرر يدفع.

وكان الصحابة – وهم أفقه الناس لهذه الشريعة- أكثر الناس استعمالا للمصلحة واستنادا إليها.

وقد شاع أن الاستدلال بالمصلحة المرسلة خاص بمذهب المالكية، ولكن الإمام شهاب الدين القرافي المالكي (684هـ ) يقول – ردا على من نقلوا اختصاصها بالمالكي-:

(وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا أو جمعوا أو فرقوا بين المسألتين، لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي جمعوا أو فرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب) .

2- للوسائل حكم المقاصد:

والقاعدة الثانية: هي أن للوسائل في شؤون العادات حكم المقاصد، فإذا كان المقصد مشروعا في هذه الأمور، فإن الوسائل إليه تأخذ حكمه، ولم تكن الوسيلة محرمة في ذاتها.

ولهذا حين ظهرت الوسائل الإعلامية الجديدة، مثل (التلفزيون) كثر سؤال الناس عنها: أهي حلال أم حرام؟

وكان جواب أهل العلم: أن هذه الأشياء لا حكم لها في نفسها، وإنما حكمها بحسب ما تستعمل له من غايات ومقاصد. فإذا سألت عن حكم (البندقية) قلنا: إنها في يد المجاهد: عون على الجهاد ونصرة الحق ومقاومة الباطل، وهي في يد قاطع الطريق: عون على الجريمة والإفساد في الأرض، وترويع الخلق.

وكذلك التلفزيون: من يستخدمه في معرفة الأخبار، ومتابعة البرامج النافعة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، بل والبرامج الترفيهية بشروط وضوابط معينة، فهذا لا شك في إباحته ومشروعيته، بل قد يتحول إلى قربة وعبادة بالنية الصالحة. بخلاف من يستخدمه للبحث عن الخلاعة والمجون وغيرها من الضلالات في الفكر والسلوك.

وكذلك هذه المسيرات والتظاهرات، إن كان خروجها لتحقيق مقصد مشروع، كأن تنادي بتحكيم الشريعة، أو بإطلاق سراح المعتقلين بغير تهمة حقيقية، أو بإيقاف المحاكمات العسكرية للمدنيين، أو بإلغاء حالة الطوارئ التي تعطي للحكام سلطات مطلقة. أو بتحقيق مطالب عامة للناس مثل: توفير الخبز أو الزيت أو السكر أو الدواء أو البنزين، أو غير ذلك من الأهداف التي لا شك في شرعيتها. فمثل هذا لا يرتاب فقيه في جوازه.

وأذكر أني كنت في سنة 1989م في الجزائر، وقد شكا إلي بعض الأخوات من طالبات الجامعة من الملتزمات والمتدينات، من مجموعة من النساء العلمانيات أقمن مسيرة من نحو خمسمائة امرأة، سارت في شوارع العاصمة، تطالب بمجموعة من المطالب تتعلق بالأسرة أو ما يسمى ( قانون الأحوال الشخصية) مثل: منع الطلاق، أو تعدد الزوجات، أو طلب التسوية بين الذكر والأنثى في الميراث، أو إباحة تزوج المسلمة من غير المسلم، ونحو ذلك.

فقلت للطالبات اللائي سألنني عن ذلك: الرد على هذه المسيرة العلمانية: أن تقود المسلمات الملتزمات مسيرة مضادة، من خمسمائة ألف امرأة! أي ضعف المسيرة الأولى ألف مرة! تنادي باحترام قواطع الشريعة الإسلامية.

وفعلا بعد أشهر قليلة أقيمت مسيرة مليونية عامتها من النساء تؤيد الشريعة، وإن شارك فيها عدد محدود من الرجال.

فهذه المسيرة – بحسب مقصدها- لا شك في شرعيتها، بخلاف المسيرة الأخرى المعارضة لأحكام الشريعة القطعية، لا يستطيع فقيه أن يفتي بجوازها.

سد الذرائع

أما ما قيل من منع المسيرات والتظاهرات السلمية، خشية أن يتخذها بعض المخربين أداة لتدمير الممتلكات والمنشآت، وتعكير الأمن، وإثارة القلاقل. فمن المعروف: أن قاعدة سد الذرائع لا يجوز التوسع فيها، حتى تكون وسيلة للحرمان من كثير من المصالح المعتبرة.

ويكفي أن نقول بجواز تسيير المسيرات إذا توافرت شروط معينة يترجح معها ضمان ألا تحدث التخريبات التي تحدث في بعض الأحيان. كأن تكون في حراسة الشرطة، أو أن يتعهد منظموها بأن يتولوا ضبطها بحيث لا يقع اضطراب أو إخلال بالأمن فيها، وأن يتحملوا المسؤولية عن ذلك. وهذا المعمول به في البلاد المتقدمة ماديا.

في السنة دليل على شرعية المسيرات

أعتقد أن فيما سقناه من الأدلة والاعتبارات الشرعية، ما يكفي لإجازة المسيرات السلمية إذا كانت تعبر عن مطالب فئوية أو جماهيرية مشروعة.

وليس من الضروري أن يطلب دليل شرعي خاص على ذلك، مثل نص قرآني أو نبوي، أو واقعة حدثت في عهد النبوة أو الخلافة الراشدة.

ومع هذا، نتبرع بذكر واقعة دالة، حدثت في عهد النبوة، وذلك عندما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

فبعد أن يسرد عمر رضي الله عنه قصة إسلامه، ولنستمع إلى عمر نفسه، وهو يقص علينا نبأ هذه المسيرة. حتى إذا دخل دار الأرقم ابن أبي الأرقم معلنا الشهادتين يقول: (فقلت: يا رسول الله ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا ؟ قال: “بلى، والذي نفسي بيده، إنكم على الحق إن متم وإن حييتم” قال: فقلت: ففيم الاختفاء ؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن، فأخرجناه في صفين: حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال: فنظرت إليّ قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها. فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق) .

ومن تتبع السيرة النبوية، والسنة المحمدية، لا يعدم أن يجد فيها أمثلة أخرى.

والحمد لله رب العالمين.

يوسف القرضاوي

لماذا تمنع المظاهرات في السعودية؟

جانفي 3, 2009

شاهدت مثل ما شاهد الملايين غيري في أغلب بلدان العالم العربي والإسلامي بل وفي البلدان الغربية ، خروج الآلاف ومئات الآلاف والملايين من الناس تظامنًا مع إخواننا في غزة.

في رام الله

في مصر

في عَمَّان

في الجزائر

في جاكرتا

وفي ماليزيا وبنغلادش والفلبين وكشمير والهند وأفغانستان وأستراليا وغيرها من الدول العربية والإسلامية وفي أمريكا وأوروبا.

بينما نحن في السعودية حيث منبع الرسالة مكة والمدينة ، ما بالنا لا نقيم هذه التظاهرات وتصل أصواتنا إلى العالم أجمع أننا مع القضية الفلسطينية.

هل تتوقعون أنه لا يمكن حشد الآلاف ومئات الآلاف لعمل معين في السعودية ولأيام؟
الجواب في الصور القادمة:في رالي حائل ، والحشود الضخمة:

هنا يذهب الآلاف من الشعب السعودي ، عند مزايين الإبل:

ثم ماذا:

الإسراف في أم رقيبة

لا ننسى المدرجات الرياضية:

لا يفهم أحد من كلامي أني ناقم على الشعب السعودي ، فأنا ابن لهذا البلد ، ولكن تؤلمني هذه المشاهد ليست لذاتها وإنما لاستغلالها في تغييب وعي الشعب عما هو أهم ، فكم نعاني من تخلف في ميادين عدة ، وعامة الناس لا يعرفون عنها ولو عرفوا لم يعرفوا كيف الحل!
ألم يكن من الأفضل بل الواجب استغلال هذه الحشود في توعيتهم وفي إيصال صوتهم إلى جميع أنحاء العالم أننا معكم يا إخواننا في غزة.
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

تساؤل منع المظاهرات في السعودية قد يكون فرصة للنقاش.

الفقه الذي نحتاج هو الفكر

ديسمبر 28, 2008

حاجتنا إلى فقه جديد

الأزمة الفكرية:
إن المجال الأول -الذي تحتاجه الأمة- في رأيي هو مجال الفكر, فهو الأساس للبناء الدعوي والبناء التربوي. الذي يبدو لي أن أزمتنا الأولى أزمة فكرية , هناك خلل واضح في فهم كثيرين للإسلام, وقصور واضح في الوعي بتعاليمه, ومراتبها, وأيها الأهم وأيها المهم، وأيها غير المهم. هناك عجز في المعرفة بالحاضر المعيش , والواقع المعاصر.
هناك جهل بالآخرين , نقع فيه بين التهويل والتهوين، مع أن الآخرين يعرفون عنا كل شيء, وقد كشفونا حتى النخاع !
بل هناك جهل بأنفسنا، فنحن إلى اليوم لا نعرف حقيقة مواطن القوة فينا، ولا نقاط الضعف لدينا، وكثيرا ما نضخم الشيء الهيّن ء وما نهون الشيء العظيم، سواء في إمكاناتنا، أم في عيوبنا .
وهذا الجهل لا يقتصر على الجماهير المسلمة ، بل يشمل الطليعة المرجّوة لنصرة الإسلام، والتي تمثل الركائز التي يقوم عليها العمل الإسلامي المنشود .

حاجتنا إلى فقه جديد:
الحق أننا في حاجة إلى فقه جديد، نستحق به ن نكون ممن وصفهم الله بأنهم (قوم يفقهون). فليس مرادنا بالفقه : العلم المعروف الذي اصطلح على تسميته (فقهاً) والذي يعني : معرفة الأحكام الشرعية الجزئية من أدلتها التفصيلية, من مثل أحكام الطهارة والنجاسة والعبادات والمعاملات وأحكام الزواج والطلاق والرضاع وغيرها . . .
فهذا العلم _ على أهميته _ ليس هو مرادنا بالفقه , وليس هو المراد بكلمة (الفقه)حيث ورد في القرآن والحديث، وإنما هي مما بدّل من الأسامي والمفاهيم, كما بيّن ذلك الإمام الغزالي في كتاب (العلم) من موسوعته المعروفة (إحياء علوم الدين). إن القرآن ذكر مادة (ف ق هـ) في سوره المكية قبل أن تنزل الأوامر والنواهي التشريعية التفصيلية, وقبل أن تفرض الفرائض, وتحد الحدود, وتفصل الأحكام. إقرأ قوله تعالى في سورة الأنعام, ومكية: ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أومن تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض, أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) (الأنعام: 65) واقرأفي السورة نفسها: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة، فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) (الأنعام: 98). والفقه في الآيتين معناه: المعرفة البصيرة بسنن الله في الأنفس والآفاق وسنن الله في خلقه, وعقوباته لمن انحرف عن صراطه.
واقرأ في سورة الأعراف _وهي مكية_ قوله تعالى في ذم قوم جعلهم حطب جهنم فكان من وصفه لهم بأنهم ( لهم قلوب لا يفقهون بها) ثم قال عنهم: (أولئك كالأنعام بل هم أضل) واقرأ في أكثر من سورة موقف المشركين من القرآن, وقد عبّر الله عنه بقوله : (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) (الأنعام : 25، والإسراء, : 46, والكهف : 57).أما في القرآن المدني فقد تكررت المادة في عدد من السور كلها تنفي (الفقه) عن المشركين والمنافقين. ففي سورة الأنفال يخاطب الله رسوله والمؤمنين بقوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين, وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) (الأنفال : 65).
فنفي الفقه عن المشركين المحاربين هنا, يراد به الفقه في سنن الله في النصر والهزيمة, ومداولة الأيام بين الناس.
وفي سورة التوبة ذم الله المنافقين بقوله: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ) (التوبة : 87). فالفقه المنفي هنا هو الفقه في ضرورة الجهاد والبذل لحماية الدين والنفس والعرض, وكيان الجماعة, وأنه مقدم على أية مصلحة فردية عاجلة أخرى.
وفي نفس السورة وصف بهذا الضعف بقوله تعالى: ( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض: هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا, صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) (التوبة :127). فقد غاب عن هؤلاء المطموسين أن الله يراهم قبل رؤية الناس, ولكنهم فقدوا الفقه والفهم حقا. وفي سورة الحشر يتحدث عن المنافقين مخاطباً المؤمنين : (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله, ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) (الحشر: 3ا).
وفي سورة المنافقين قال تعالى . (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع الله على قلوبهم, فهم لا يفقهون) (المنافقين : 3).
وفي السورة نفسها : ( وهم الذين يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا, ولله خزائن السموات والأرض , ولكن المنافقين لا يفقهون) (المنافقين: 3).
وفي السورة نفسها: (وهم الذين يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، ولله خزائن السموات والأرض، ولكن المنافقين لا يفقهون) (المنافقين:7).
وبهذا كان لأهل النفاق حصة الأسد من هذا الوصف القرآني بأنهم (لا يفقهون). ذلك لأن المنافقين يتوهمون أنهم أذكياء وأنهم استطاعوا أن يلعبوا على الحبلين، و ويعيشوا بوجهين، وأنهم خادعوا الله والذين آمنوا، فإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا وذا خلو إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم.
ولكن الله تعالى هتك سترهم, وفضح ذبذبتهم, وكشف خداعهم في آيات كثيرة : ( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا نفسهم وما يشعرون) (البقرة : 9) .
المهم أنهم فضحوا عند الله وعند الناس، وخسروا الدنيا والآخرة , وحق عليهم أنهم في الدرك الأسفل من النار، فأي غباء أكبر من هذا الغباء؟ ولا ريب أن من كان هذا وصفه ليس عنده شيء من الفقه .

الخلاصة:
أن الفقه في لغة القرآن ليس هو الفقه الاصطلاحي، بل هو فقه في آيات الله وفي سننه في الكون والحياة والمجتمع . حتى التفقه في الدين الذي ورد في سورة التوبة ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين, ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (التوبة :122).
لا يقصد به الفقه التقليدي: فإن الفقه لا يثمر إنذاراً يترتب عليه حذر أو خشية، بل هو أبعد شيء عن أداء هذه الوظيفة، التي هي وظيفة الدعوة.
ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-” ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين“. والمعنى أن ينير الله بصيرته فيتعمق في فهم حقائق الدين وأسراره ومقاصده ولا يقف عند ألفاظه وظواهره.

الشيخ/ يوسف القرضاوي

أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة

ليس بدعا

نوفمبر 16, 2008

العقلانية.. هل هي تهمة؟
-3-


[إن هناك طريقًا واحدًا لإرضاء الله سبحانه وتعالى ونيل محبته ، هو اتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- واقتفاء آثاره والسير على سنته ؛ لقوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم..)] محمد الغزالي “السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث”.

أيهما أصح عندنا كتاب الله جل وعلا أم ما ورد في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
مما هو معلوم أن كتاب ربنا هو آكد لدينا وأثبت من الأحاديث.. فالقرآن وصلنا متواترًا ولقد تكفل الله عز وجل بحفظه ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).. أما السنة فأغلبها أحاديث آحاد.. أي أنها لم تصل درجة القطعية إلا الأقل منها.
ومن المعلوم أيضًا أن آحاديث الآحاد لا يمكن أن تنسخ آية من كتاب الله.. فإن المتواتر لا يُنسخ بآحاد.. وإنما ينسخ المتواتر بمتواتر مثله.. ولا تنسخ الآية إلا آية..ويمكن أن ينسخ الآحاد بالآحاد.. وفي ذلك تفصيل واختلاف بين أهل العلم ليس هذا موضعه.

تذكرت القصة التي أوردها عمرو خالد في برنامجه.. وأنا أقرأ لأحدهم يتكلم عن بعض دعاة الإسلام بأنهم عقلانيين ويقدمون العقل على النقل وغيرها من الكلمات!!
ومن هؤلاء العالم الجليل محمد الغزالي -رحمه الله رحمة واسعة- ولقد شن البعض هجمة عليه وعلى كتابه السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث.. ولقد قرأت الكتاب واطلعت عليه أكثر من مرة.. وقلبته ولم أجد أن الشيخ الغزالي رحمه الله قد رد حديثًا لأنه يخالف عقله هكذا من دون أي حجة!!
ولقد تأملت فيما أوره في كتابه.. بغظ النظر هل أنا مؤمن ومقتنع بما قاله أم لا.. ووجدته لا يرد حديثًا من الأحاديث التي ردها حتى لو صح إسنادها إلا بوجود شذوذ أو علة قادحة في متنها لأنها تخالف آيات من القرآن الكريم!! أو تخالف آحاديث أخرى أصح وأقرب من تلك الأحاديث.. وهو لا ينسب ذلك الخطأ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. بل يعتقد بأن أحد الرواة أخطأ في الحديث لا محالة.
ووجدت بأن الغزالي -رحمه الله تعالى- يضع القرآن نصب عينيه قبل كل شيء ويجعل القرآن هو المنطلق الأول وهو المصدر الأول لديننا الإسلامي.. فإذا جاء حديث آحاد يخالف نصوص القرآن الظاهرة رده ولم يؤمن به.. أو أنه يرجح تأويلًا معينًا لذلك الحديث.. ثم يجعل بعد ذلك السنة النبوية الشريفة مصدرًا ثانيًا وهي مقدمة على ما دونها!
وأود أن أرسل رسالة من هنا لكل من اتهم الغزالي بمعاداة السنة.. وهي أن يقرأوا ما كتبه الغزالي حول تلك الأحاديث.. ويفهمومها على ما فهمها هو وأن يدركوا كيف تعارضت عنده النصوص.. ثم بعد ذلك يحكموا هل أخطأ أم أصاب.. أما أن ترمى التهم جزافًا من دون أدلة على أنه يعادي السنة فلعمري إن هذه لمن المكفرات!!
ومن نظر وجد بأن الغزالي ليس الأول في هذه الطريقة.. بل لقد فعلته من قبل أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- وفعله الإمام أبو حنيفة وفعله مالك -رحمهم الله جميعًا رحمة واسعة-.. بل لقد فعل ابن القيم ووافقه ابن عثيمين -رحمهما الله- بأن ردا لفظ حديث لأن أوله يخالف آخره عقلًا ونظرًا.. ورجح ابن القيم رواية أضعف سندًا على تلك الرواية الأصح سندًا.. ولا أدري لماذا لا تسل الأقلام ضد ابن قيم الجوزية وابن عثيمين وتثبت عليهم كلمة (العقلانيون) وبأنهم يقدمون العقل على النقل!! عملًا بالعدل بين الناس وبأن (الحق أحب إلينا من أي أحد)!.
ولعل من خير ما أختم به حديثي هذا.. كلام للعلامة ابن عثيمين -رحمه الله رحمة واسعة-.
قال ابن عثيمين معلقًا على كلام ابن القيم حول (وليضع يديه قبل ركبتيه) وتصحيحها إلى (وليضع ركبتيه قبل يديه):
وهذه المسألة وإن كنت أنا أعتقد أن هذا هو الصواب، وأنه ينهى أن يقدم الإنسان يديه قبل ركبتيه لحديث أبي هريرة هذا، فأنا لا أحب أن تكون مثل هذه المسألة مثاراً للجدل، أو العداوة، أو البغضاء أو التضليل وما أشبه ذلك، لا هذه ولا غيرها من مسائل الاجتهاد، فكل المسائل الاجتهادية التي يعذر فيها الإنسان باجتهاده يجب أن يعذر الإنسان أخاه فيها، فكما أنه هو ينتصر لما يرى أن النصوص دلت عليه، فكذلك أيضاً يجب عليك أن تعامله بمثل ما تحب أن يعاملك به، كما أنه لو انتقدك لرأيته مخطئاً عليك، فأنت إذا انتقدته تكون مخطئاً عليه، أما ما لا يقبل الاجتهاد فلا تسكت عنه وأنكره وبين الحق، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في مسائل أعظم من هذه، ومع ذلك فالقلوب واحدة، والهدف واحد، والتآلف موجود، والله الموفق.

والله أعلم ، وصلى الله على محمد وآله.